سادت عالميا ثقافة الإفلات من العقوبة، وخاصة رعايا الدول الكبرى إذا ما ارتكب أحدهم أو جماعة منهم جرائم ضد الإنسانية بمفهومها الوارد بالقانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني.
من هذا المنطق تشكلت فكرة إنشاء محكمة دولية قادرة على محاكمة الجناة عندما تعجز المحاكم الوطنية – لتلك الدول – القيام بدورها القضائي ضد هؤلاء المجرمين فكانت المحكمة الجنائية الدولية التى أنشئت عام 2002 كأول هيئة قضائية دولية تحظى برعاية عالمية، قادرة على محاكمة الجناه المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
وقد انضم حتى الآن عددا كبيرا من الدول الداعمة للسلام والأمن الدوليين إلا انه مازالت إسرائيل وأمريكا ترفضان الانضمام إلى المعاهدة ألتأسيسة للمحكمة"نظام روما الأساسي"، بل أصبحت السياسة الأمريكية العقبة الكؤود لعرقلة كل قرارات المحكمة الدولية وتقويض دورها الذى أنشئت من أجله.
وعلى سبيل المثال حينما حاولت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة بتاريخ 3 مارس 2021 التأكيد على ضرورة فتح تحقيق فى الوضع الفلسطينى عارضت أمريكا بشدة هذا القرار، الأمر الذى وصل إلى حد قيام دونالد ترامب بإصدار أمرا تنفيذيا بتجميد أصول المحكمة وفرض عقوبات على المدعية العامة للمحكمة ومسئول كبير آخر ومنع دخولهما إلى الولايات المتحدة، ونازعت أمريكا فى اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على زعم أن إسرائيل ليست عضوا من أعضاء المحكمة وأن الفلسطينين غير مؤهلين كدولة ذات سيادة وبالتالى غير مؤهلين للحصول على العضوية كدولة فى المحكمة الجنائية الدولية أو المشاركة فيها أو تفويض الولاية القضائية إليها.
ورغم قيام الرئيس بايدن بإلغاء هذا الأمر التنفيذى لما له من آثار سلبية وسيئة وتهديدا غير مسبوق لسيادة القوانين الدولية، إلا أنه حتى مع إلغاء هذا الأمر أكدت إدارة بايدن أنها لا تزال تعارض إجراءات المحكمة الجنائية الدولية فى الوضعين الأفغاني والفلسطينى، وهكذا تعرقل الولايات المتحدة الأمريكية وتقوض كل جهود المحكمة الدولية فى معاقبة مجرمى الحرب، وخاصة المسؤولين الإسرائيلين بل ومنع حتى مجرد إجراء تحقيق حول ما يحدث من مجازر على الأراضى الفلسطينية وفى – بجاحة – منقطعة النظير أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية " ماتيو ميلر" أول أمس الأربعاء أن الولايات المتحدة لا ترى أى أعمال فى غزة تشكل إبادة جماعية، وذلك على أثر قيام جنوب أفريقيا باتخاذ إجراءات قضائية ضد إسرائيل فى محكمة العدل الدولية متعلقة بالإبادة
بسبب حربها على القطاع الفلسطيني.
كل ما يحدث الآن على الأراضى الفلسطينية من إبادة ومجازر وتهجير وهدم البيوت على رؤوس الأطفال والنساء والشيوخ والتجويع والتشريد لا يرقى فى نظر أمريكا إلى تشكيل جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية أو جرائم إبادة جماعية، وعلى الرغم من قضاء المحكمة الجنائية الدولية بأن الاراضى الفلسطينية تقع ضمن اخصاصها القضائى وبحسب قرار المحكمة فإن اختصاصها يشمل الأراضى التى احتلتها إسرائيل منذ عام 1967، أى غزة والضفه الغربية بما فى ذلك القدس الشرقية، ورغم أن ذلك القرار محوري هام يوجه من خلاله - مرتكبى الجرائم والانتهاكات الجسيمة من الإسرائيلين - العدالة إلا أن أمريكا أعلنت الحرب على المحكمة الجنائية الدولية وعلى المدعية العامة للمحكمة بعدما دعت الأخيرة عام 2019 إلى إجراء تحقيق كامل بعد تحقيق أولى بدأته المحكمة عام 2014
وعلى الرغم من تلقي كريم خان المدعى العام الحالى للمحكمة طلبا مشتركا من خمس دول للتحقيق فى الوضع بالأراضى الفلسطنية، إلا أن الأمر مازال معقدا خاصة وأن هناك تحقيق مازال جاريا منذ 2014 حتى الآن وأن الطلب الذى قدم سيظل له تأثير محدد رغم أن مكتب المدعي العام للمحكمة لديه الكثير من المعلومات التى تقطع بارتكاب المسئولين الإسرائيلين لجرائم حرب وجرائم إبادة جماعية إلا أنه ستظل أمريكا هى حائط الصد والعقبة الكؤود التي تحول دون اتخاذ ثمة إجراءات عقابية تدين المسئولين الإسرائيلين عما ارتكبوه فى الأراضى الفلسطنية من جرائم ، مما يجعل مصداقية المحكمة الجنائية الدولية على المحك، وأن "ميثاق روما الأساسى" حبرا على ورق وأن إرادة أكثر من مائة دولة هم الموقعين على الميثاق فى مهب الريح ويجعل كيان المحكمة الجنائية ذاتها كيان كرتونى بلا إلزام او فاعلية