التسبيح تسليح كتبت .. الاديبة زينب علي درويش
فتحى السايح
مضت فاطمة للقاء العجوز التي لا تعرف للشيخوخة طريقًا، ولا للمجاملة وجهًا؛ كلماتها رقيقة، وابتسامتها سحر يتسلل إلى القلب، وجمالها يفوق طاقة البشر.
قادت فاطمة سيارتها الحمراء، وانطلقت مسرعة كأنها تسابق الضوء لا تريد أن يفوتها موعد الشروق، فهي تعلم أن ليلى لا تفوّت هذا الموعد أبدًا، إذ يسبق كل مطلع شهر عربي جديد لقاءهما الذي لا يتغير مهما حدث.
حين وصلت إلى البيت القابع وسط أرض زراعية تحيطه الخضرة من كل جانب، وجدت الباب الأبيض الكبير مفتوحًا بلا حارس ولا مُستقبِل. وقبل أن تطرق، سمعت صوتًا دافئًا يناديها:
– ادخلي يا فاطمة، لا تقفي عند الباب، فالوقت قصير… تعالي.
تساءلت بدهشة:
– كيف عرفتِ اسمي وموعد وصولي؟
لكنها تماسكت ودخلت.
في صحن البيت الواسع، كانت الأرائك مكسوّة بغطاء أخضر، وكرسي وحيد مفروش بالأبيض تجلس عليه ليلى بثياب بيضاء، وفي يديها سبحة خضراء طويلة، وإلى جوارها قطة ترضع صغارها. على المنضدة أمامها صينية بها كنكة وفنجان قهوة.
قالت فاطمة بخجل:
– صباح الخير.
ابتسمت ليلى وردّت:
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
أضافت فاطمة وهي تتأملها:
– أنتِ أجمل مما سمعت…
فقالت ليلى بهدوء:
– أتحبين العيون الزرقاء والوجه الأبيض؟
قالت فاطمة:
– بالتأكيد… كنت أتمنى أن أكون مثلك.
ابتسمت ليلى وسألتها:
– هل تحبين القهوة؟ سأعدها بيدي.
– يسعدني أن أشربها من يدكِ، أجابت فاطمة.
وبينما ارتشفت من فنجانها، سألتها ليلى:
– ما الذي أتى بكِ إليّ؟
قالت فاطمة بصوت حزين:
– أشتكي من قلة الأحلام… كل من حولي يحلمون بالسماء والبحر والرمال والبيوت، أما أنا فلا أرى شيئًا.
أشارت ليلى نحو النافذة:
– قومي وانظري، أخبريني ماذا ترين.
تقدمت فاطمة، وسألت في الطريق:
– لماذا أرض البيت من الخشب القديم رغم فخامته وغناك؟
ابتسمت ليلى:
– الخشب من الشجر، والشجر رمز للدفء والعطاء… وأنا أحب الدفء والعطاء.
ثم أضافت:
– انظري من النافذة.
قالت فاطمة:
– لا أرى سوى زرع أخضر، أشجار، سماء، شمس، ونور يتخلله نسيم بارد.
فأجابتها ليلى:
– اجعلي قلبكِ وعقلكِ مثل تلك النافذة.
– وماذا لو هبّت رياح محملة بالتراب ومنعتني من الرؤية؟
– صحيح… لذلك لا تدعي الغضب، الكره، الشكوك، والحسد تحجب بصيرتكِ.
قالت فاطمة متنهّدة:
– إذن العيب عندي أنا؟
ردّت ليلى بحزم:
– العيب في غياب النور. اجعليه الساكن الوحيد في قلبك وعقلك، فالنور هو الجمال الحقيقي، وليس العيون الزرقاء ولا البشرة البيضاء.
– لكني لا أستطيع أن أمنع نفسي من الغضب…
– الغضب يضعف القلب.
– وكيف لا أغضب ممن كذب وخدع وخان؟
ابتسمت ليلى وقالت:
– هؤلاء أصحاب نفوس ضعيفة، فلا تضعفي قلبك من أجلهم. مصيرهم الفناء، بينما قلبك لن يقوى إلا بالنور.
ثم رفعت سبحتها الخضراء وقالت:
– النور يأتي بالتسبيح. ألم تسمعي أن التسبيح تسليح؟ هذه السبحة تقوّي قلبي… أنا وهي كيان واحد.
سكتت قليلًا ثم تابعت:
– الوقت حان… عودي وطهّري قلبك، وسأنتظركِ لتقصّي عليّ أول حلم.
خرجت فاطمة وهي تحدّث نفسها:
"لم أشعر بالوقت معها… قلبي أحبها، ويجب أن أنفّذ ما قالت."
في البيت، بحثت عن وسيلة للتسامح، فترددت. لكنها فتحت درج جدها، فوجدت سبحته القديمة ذات الرائحة المميزة، وأمسكتها تسبّح بها حتى غلبها النوم. في حلمها رأت شجرة لم تكتمل صورتها، فاستيقظت تقول بفرح:
– كدتُ أن أرى رؤية! هل النتيجة بهذه السرعة؟ أنا سعيدة جدًا!
في اليوم التالي التقت صديقتها القديمة "نور" التي افترقت عنها منذ زمن. ترددت: هل تسلّم عليها أم تمضي بصمت؟ لكن كلمات ليلى رجعت إلى ذهنها، فابتسمت وقالت:
– صباح الخير يا نور.
تفاجأت نور، وأجابتها مترددة:
– صباح النور… لم أتوقع منكِ هذا.
ثم دعتها فاطمة للجلوس، وتبادلا العتاب حتى تصافت القلوب. خرجت فاطمة سعيدة: "ها هو قلبي يتعافى."
ومنذ ذلك اليوم، صار التسبيح والتسامح رفيقيها. ومع كل ليلة، اقتربت من رؤياها الكبرى، حتى جاء فجر ضاحك استيقظت فيه قائلة:
– لقد رأيت رؤيا كاملة… أين ملابسي؟ أين سيارتي؟ أريد أن أذهب إلى ليلى!