ارشيفية
عصمت رضوان
إن الحضارة المصرية القديمة هي أعرق حضارات التاريخ الإنساني، وأكثرها تمدنًا، وأعظمها آثارًا، وقد بقيت آثارها خير شاهد على العظمة والرقي في عصور مصر القديمة.
وقد تميزت الحضارة المصرية القديمة بمظاهرها العمرانية والفكرية والحضارية.
ولم يكن غريبًا أن يذكر القرآن الكريم بعض ملامح هذه الحضارة، بوصفها البيئة التي احتضنت أحداثًا كبرى مرتبطة بقصص الأنبياء الكرام ، وبخاصة يوسف وموسى عليهما السلام.
والقرآن إذ يورد هذه الشهادات، فإنه لا يقتصر على السرد التاريخي، بل يبرز المعاني الحضارية، والعبر الإنسانية في أحداث القصة المروية.
** الآيات القرآنية وشهاداتها الحضارية:
وقد قمت بجمع الآيات القرآنية التي تحدثت عن مصر القديمة وحضارتها، مع تحليل موجز يبرز قيمة هذه الحضارة :
** الشهادة الأولى : قوله تعالى:
﴿قَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ (القصص: 38)
فهذه الآية تشير إلى عظمة العمارة المصرية؛ إذ عرف المصريون قديماً بناء الصروح والهياكل العظيمة، من الطوب المحروق والحجر.
وهي شهادة على براعتهم في فنون البناء.
** الشهادة الثانية : قوله تعالى:
﴿وَنَادَىٰ فِرۡعَوۡنُ فِی قَوۡمِهِۦ قَالَ یَـٰقَوۡمِ أَلَیۡسَ لِی مُلۡكُ مِصۡرَ وَهَـٰذِهِ ٱلۡأَنۡهَـٰرُ تَجۡرِی مِن تَحۡتِیۤۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ } (الزخرف: 51).
وهذه شهادة قرآنية على المكانة السياسية والاقتصادية لمصر القديمة، فقد ارتبط ملك مصر بنهر النيل، مصدر الحياة والرخاء. والآية تبرز اعتداد الفراعنة بسيطرتهم على المياه والزراعة، وهما عماد الحضارة المصرية.
**الشهادة الثالثة : قوله تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾ (المائدة: 20).
هذه الآية إشارة إلى ما تميز به بنو إسرائيل في مصر من مكانة وامتيازات زمن يوسف عليه السلام، حيث تسلموا مقاليد الحكم والإدارة.
وهي شهادة على أن مصر كانت موئلاً للحكم والتنظيم السياسي، مما جعلها أرضًا خصبة لقيام الدول والحضارات.
** الشهادة الرابعة : قوله تعالى:
﴿فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (الشعراء: 57-59)
في هذه الآيات تصوير للثراء الزراعي والاقتصادي لمصر القديمة: "جنات وعيون وكنوز"، وهو تصوير يعكس مظاهر الرفاهية والثراء الحضاري.
** الشهادة الخامسة : قوله تعالى:
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾ (الشعراء: 52-53).
فذكر "المدائن" في الآيات دليل على أن مصر الفرعونية لم تكن مدينة واحدة، بل هي كيان حضاري واسع يضم عواصم ومدنًا متعددة، مما يكشف عن قوة ودقة التنظيم العمراني والسياسي.
** الشهادة السادسة : قوله تعالى:
﴿وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ (الأعراف: 137).
هذه الآية تبرز مآل الحضارة التي بنيت في عهد فرعون الذي طغى وبغى، فكان مصيرها الدمار، ورغم ذلك بقيت آثارها شاهدة على تلك الحقبة.
وقد ورد في كتاب "فضائل مصر وأخبارها وخواصها": قال المأمون حين دخل مصر: "قبح الله فرعون إذ قال: (أليس لي ملك مصر) فلو رأى العراق!".
فرد عليه سعيد بن عفير قائلاً: "يا أمير المؤمنين، لا تقل هذا، فإن الله تعالى قال: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) ، فما ظنك بشيء دمره الله، هذه بقيته؟
* * الشهادة السابعة : قوله تعالى: " قال اجعلني على خزائن الأرض" ( يوسف 55)
فسمت الآية أرض مصر خزائن الأرض في إشارة إلى كثرة خيراتها التي هي بمثابة خزائن لإطعام أهل الأرض.
* * الشهادة الثامنة : قوله تعالى:
﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ (يوسف: 99)
وفي هذه الآية بُعد حضاري عميق، إذ جعلت مصر موطنًا للأمن والاستقرار، وهي شهادة قرآنية متجددة على أن أرضها عبر التاريخ كانت مأوى الأمان والطمأنينة.
ومن خلال هذا العرض يتضح أن القرآن الكريم حين ذكر مصر لم يوردها عرَضًا، بل أبرزها من خلال قوة ا الحضارة والعمران، والثراء الزراعي والاقتصادي.
كما أشار إلى المكانة السياسية، والتنظيم الاجتماعي والحضاري.
كما ذكر القرآن الكريم البعد الإنساني والأمني.
لقد شكلت الحضارة المصرية القديمة مظاهر كبرى في التاريخ، وجاء القرآن الكريم ليسجل شهادات حضارية عنها، في عمرانها وزراعتها وأمنها وتنظيمها.
حفظ الله مصر الكنانة ، وأبقاها دارا للأمن والأمان .