بقلم د/ أحمد كلحي
تثير مسألة تخفيض السن الجنائي للطفل في مصر نقاشًا واسعًا، وجدلًا محتدمًا، فبينما يشهد الواقع المؤلم ازديادًا ملحوظًا في بعض الجرائم الخطيرة التي يرتكبها أطفال تتراوح أعمارهم بين 15 و17 عامًا شملت القتل العمد، الاغتصاب، السرقة بالإكراه، يظل قانون الطفل المصري رقم 12 لسنة 1996 ثابتًا لا يتزحزح عند اعتبار كل من لا يتجاوز الثامنة عشرة طفلًا لا يواجه المسؤولية الجنائية الكاملة، على الرغم من تغير المجتمع تغيرًا جذريًا وظهور وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشار العنف الإلكتروني، وزيادة الجرائم الشديدة بين الأحداث، وهو ما يثير التساؤل المشروع: هل يمكن تخفيض السن الجنائي للطفل؟ أم أن الالتزامات الدولية تضع قيدًا لا يمكن تجاوزه؟
وللإجابة على هذا التساؤل، جديرٌ بنا أن نتناول المسألة من ثلاث زوايا مترابطة، أولها: الإطار التشريعي لقانون الطفل المصري وما يفرضه من قواعد وضوابط، وثانيها: الالتزامات الدولية التي ارتضتها الدولة بموجب الاتفاقات والمعاهدات النافذة، وثالثها: أحكام الشريعة الإسلامية باعتبارها مصدر رئيسي للتشريع.
أولًا: الإطار التشريعي لقانون الطفل المصري.
رغم بشاعة العديد من الجرائم المرتكبة، يفلت بعض الجناة من عقوبة الإعدام بموجب حكم المادة (111) من قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 وتعديلاته بالقانون رقم 26 لسنة 2008، والتي تقضي بعدم جواز الحكم بالإعدام أو السجن المؤبد أو السجن المشدد على من لم يُتم الثامنة عشرة وقت ارتكاب الجريمة. وبمقتضى هذا النص، حتى في حالات القتل العمد مع سبق الإصرار، لا تتجاوز العقوبة الحد الأقصى المقرر وهو خمس عشرة سنة، بما يحول دون توقيع العقوبات المغلظة على مرتكبي هذه الجرائم لكونهم خاضعين لقانون الطفل. وهو ما يطرح ضرورة ملحّة لإعادة النظر في سن الحدث، وتعديل قانون الطفل بما يتوافق مع الواقع الراهن، ويحقق الردع المطلوب للحد من تفاقم جرائم الأحداث.
ثانيًا: الشريعة الإسلامية
يُبيّن الفقهاء أن سنَّ الرشد قدّره بعض العلماء بثمانية عشر عامًا للأنثى وإحدى وعشرين عامًا للذكر، غير أن المرجّح عند جمهور فقهاء الشريعة أن مناط التكليف والعقاب هو البلوغ لا الرشد، إعمالًا للحديث النبوي الشريف " رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون حتى يعقل، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم" ويُعرَف البلوغ شرعًا باحتلام الذكر وحيض الأنثى، ويُقدَّر عادة بسن الثالثة عشرة للأنثى والخامسة عشرة للذكر. وبناءً على ذلك، فإن الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية يقتضي اعتبار البلوغ هو الأساس في توصيف المسؤولية الجنائية؛ فإذا بلغ الجاني وثبت تكليفه شرعًا، يُحاسَب على جريمته ولا يُعد طفلًا. كما لا يُعدّ من تجاوز سن العاشرة طفلًا من الناحية الشرعية من حيث التمييز وتحمل قدر من المسؤولية؛ ومن هنا يطرح تساؤل منطقي، إذا كانت مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع ـ بحسب نص المادة الثانية من الباب الأول من الدستور المصري ـ فلماذا لا يُسمح بتخفيض السن الجنائي ليقترب من معيار الشريعة؟
الإجابة تكمن في أن التشريع لا يستقل بذاته، بل يخضع أيضًا لالتزامات دولية وقعت عليها الدولة، وهو ما يقودنا إلى المحور الثالث:
ثالثًا: الالتزامات الدولية واتفاقية حقوق الطفل
انضمت جمهورية مصر العربية إلى اتفاقية حقوق الطفل عام 1990، وكان ذلك بموجب قرار رئيس الجمهورية رقم 260 لسنة 1990 ببشأن الموافقة على اتفاقية حقوق الطفل التي وافقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 20/11/1989 وهي اتفاقية تُعرف الطفل بأنه كل من لم يبلغ الثامنة عشرة، وتُلزم الدول بإعطاء الطفل حماية خاصة ومعاملة تتناسب مع عمره واحتياجاته، ومن أبرز القيود التي تفرضها الاتفاقية طبقًا لنص المادة 37.
1 ــ حظر تطبيق عقوبة الإعدام على الطفل تحت أي ظرف.
2 ــ حظر العقوبات القاسية او اللا إنسانية.
3 ــ ضرورة معاملة الطفل في نظام عدالة الأحداث بمعايير خاصة
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه على بساط المناقشة ما الذي يجعل الاتفاقية كأنها عائق؟
يرجع السبب أن بعض الآليات التابعة للأمم المتحدة تتبنى تفسيرًا واسعًا لمفهوم حماية الطفل، وتوصي بأن يظل الحد الأقصى للسن الجنائي قريبًا من 18 عامًا، ويبدو أن واضعي الاتفاقية قد وضعوا نصب أعينهم ما يعتري هذه المرحلة العمرية من تحولات عضوية ونفسية عميقة، وما يصاحبها من تغيرات هرمونية وظهور تغير وزيادة في افرازات الغدة النخامية وهي الموجودة أسفل الرأس والمتحكمة في وظائف باقي غدد الجسم، مع ازدياد افراز الغدة الدرقية التي تؤثر في رغبة الانسان في الاعتداء، كذلك تنشط الغريزة الجنسية دون أن تجد اشباعًا يتفق مع القانون، وهي أمور تستوجب في تقدير واضعي الاتفاقية توفير قدر أعلى من الحماية والرعاية، لا تشديد المسؤولية أو توسيع في نطاق العقاب.
ويبقى التساؤل الأخير هل يمكن لمصر الانسحاب من اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989؟
نعم، الاتفاقية تسمح بالانسحاب صراحة في المادة 2/51 حيث يجوز لأي دولة أن تنسحب من اتفاقية حقوق الطفل بإخطار رسمي إلى الأمم المتحدة، ويصبح الانسحاب نافذًا بعد مرور سنة على تاريخ استلام الاشعار، لكن ـ في تقديري ـ هذا الخيار عمليًا قد يكون مكلفًا دستوريًا وسياسيًا ودبلوماسيًا.
حيث تنص المادة (93) من الدستور المصري على أنه " تلتزم الدولة بالاتفاقات والعهود الدولية لحقوق الإنسان التي تصدق عليها، وتصبح لها قوة القانون"، كما تنص المادة (80) منه على أن الطفل هو كل من لم يبلغ 18 عامًا، وأن الدولة تلتزم بحمايته وتوفير معاملة خاصة له فى كل الإجراءات.
ومن ثمّ جاء قانون الطفل متوافقًا مع هذه الالتزامات الدولية والدستورية وبالتالي قد يعتبر الانسحاب إخلالاً بالتزامات مصر الدولية خاصة إذا كان يمس جوهر حقوق الإنسان، ومن ناحية العرف الدولي قد يواجه الأنسحاب انتقادات دولية واسعة، وتراجعًا في المؤشرات الدولية لحقوق الإنسان، فضلًا أنه حتى لو انسحبت مصر من اتفاقية حقوق الطفل، فهناك اتفاقيات أخرى تبقى نافذه وتؤدي نفس الالتزامات تقريبًا كالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، واتفاقيات العمل الدولية الخاصة بالأطفال.
ختامًا الواقع المجتمعي يتطلب سياسة جنائية أكثر مرونة لمواجهة الجرائم العمدية الخطيرة التي يرتكبها بعض الأطفال وفي المقابل لا يجب أن يؤدي تخفيض السن إلى قسوة غير مبررة أو مساس بمبدأ حماية الطفل أو بما يخل بالتزامات مصر الدولية، وهذا يعد اختبار حقيقي لقدرة الدولة على المواءمة بين حماية المجتمع وحماية الطفل والالتزامات الدولية، فالهدف ليس معاقبة الطفل لمجرد العقاب ولا ترك المجتمع فريسة لجرائم ترتكب بإيدٍ صغيرة، الهدف هو بناء سياسة جنائية رشيدة تعالج جذور الانحراف، وتمنع الجريمة قبل وقوعها، وتضع الطفل على طريق الإصلاح لا الجريمة وهذا لا يتحقق في تقديري إلا عبر إصلاح الأسرة، والمدرسة معًا:
فالأسرة طبقًا لنص المادة (9) من الدستور المصري هي " أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وتحرص الدولة على تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها " والأسرة هي أول مجتمع يواجهه الطفل، فإذا كانت أسرة متماسكة يسود أفرادها الوئام والمودة والسلام، وتفيض على أعضائها مشاعر الحب والرحمة والحنان، وكلما كان دخل الأسرة مناسبًا يكفل لأفرادها حد أدنى من الرخاء، كان ذلك داعيًا إلى اتخاذ الأبناء مسلكًا سليمًا، أما إذا تفكك كيان الأسرة وتصدع، فغشيها الخلاف والبغض والشجار، أو نضب فيها معين الرحمة والحنان، أو كان دخل الأسرة ضئيلًا لا يكاد يكفل ما يقيم الأطفال، كان ذلك دافعًا إلى انتهاج أبنائها الإجرام، ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه بقوة ماذا نتوقع من أطفال يكبرون في مجتمع تسجل فيه حالة طلاق كل دقائق معدودة؟ ماذا نتوقع من إسهامات الفن، ولا سيما الأعمال الدرامية الهابطة، في ترسيخ صور مغلوطة عن القوة والرجولة، مما يدفع بعض الأطفال إلى تقليد مشاهد العنف واستعراض السلاح دون وعي. وقد أدى هذا التقليد الأعمى إلى انتشار سلوكيات خطرة، خاصة في ظل ضعف الرقابة الأسرية، إذ يُثار التساؤل عن كيفية تمكن حدث من حمل سلاح داخل حقيبته أو ملابسهمما ؟
ثم يأتي دور المدرسة كونها المجتمع الأول الذي ينضم إليه الطفل بعد فترة طفولته الأولى، ولا يقف دور المدرسة عند حد التعليم، وإنما للمدرسة دور لا يقل أهمية عن ذلك هو التهذيب، فالمعلم إلى جانب إلقاء الدروس يقوم ولو عن طريق غير مباشر بتلقين المثل العليا والقيم الاخلاقية ، لذلك كان ضروريًا أن يكون المعلم ملمًا بمبادئ علم النفس وبأسس التربية السليمة حتى يستطيع أن يجتذب تلاميذه إلى السبيل القويم، ويقيهم احتمال الانحراف عنه إلى طريق الجريمة، ولذلك كان لزامًا أن تتجه الدولة إلى الاهتمام بالمعلم والارتقاء بمكانته، لكونه يعد حجر الأساس في بناء المنطومة التعليمية وتشكيل وعي الأجيال.
بهذا التوازن وحدة يمكن للدولة أن تقترب من تعديل واقعي وعادل لقانون الطفل دون الاصطدام بالالتزامات الدولية أو ترك المجتمع دون حماية؛ وللحديث بقية...